مِكرٍّ مِفرٍّ مقبلٍ مدبرٍ معًا
يصف امرؤ القيس حصانه في معلقته، فيقول:
مِكرٍّ مِفَرٍّ مُقبِلٍ مُدْبِرٍ معًا
كجُلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من علِ
مِكرّ: كثير العطف- أي العودة مرة بعد أخرى،
مِفرّ: كثير الفِرار (بقصد الرجوع للمبارزة أقوى).
الكَرُّ وَالفَرُّ فِي القِتَالِ: الهُجوم وَالتَّرَاجُع ليهجم الفارس ثانية بصورة أشد.
الجُلمود: الحجر العظيم الصلب
حطه: حدّره من فوق.
يقول: إن فرسه سريع الجري، شديد الإقدام والإدبار معًا، وشبهه بحجر عظيم ألقاه السيل من مكان عالٍ إلى الحضيض.
ورد في شرح البيت لدى الزوزني:
يقول: "هذا الفرس مِكَرّ إذا أريد منه الكرّ، ومِفَرّ إذا أريد منه الفر، ومقبل إذا أريد منه إقباله، ومدبر إذا أريد منه إدباره، وقوله: "معًا"، يعني أن الكر والفر والإقبال والإدبار مجتمعة في قوته لا في فعله؛ لأن فيها تضادًا.
ثم شبهه في سرعة مَرِّه وصلابة خلقه بحجر عظيم ألقاه السيل من مكان عالٍ إلى حضيض".
(الزوزني: شرح المعلقات السبع، ص 41).
في (خزانة الأدب) ساق لنا البغدادي الشرح، ولم يكن بعيدًا عما ذكره الزوزني، ولكنه أضاف لنا اجتهادات المحدَثين في قوله- "وذهب قوم"، حيث استغرب من ذلك.
يقول البغدادي:
"مِكر ومِفرّ صيغتا مبالغة (مثل مِصْقَع، مِسعر، مِقوَل) ...
فإنما أراد أنه يصلح للكرّ والفرّ، ويحسن مقبلاً ومدبرًا. ثم قال: معًا، أي: جميع ذلك فيه.
وشبّهه في سرعته وشدّة جريه بجلمود حطّه السيل من أعلى الجبل - وإذا انحط من عل كان شديد السرعة؛ فكيف إذا أعانته قوة السيل من ورائه!
وذهب قوم إلى أن معنى قوله: كجلمود صخر الخ، إنما هو الصلابة؛ لأن الصخر عندهم كلما كان أظهر للشمس والريح كان أصلب.
وقال بعض من فسّره من المحدَثين:
إنما أراد الإفراط، فزعم أنه يرى مقبلاً مدبرًا في حال واحدة عند الكر والفر، لشدّة سرعته؛ واعترض على نفسه فاحتج بما يوجد عِِِِِِِِِِيانًا، فمثّله بالجلمود المنحدر من قُُُُُنّة الجبل: فإنك ترى ظهره في النَّصبة على الحال التي ترى فيها بطنه وهو مقبل إليك."
ينقد البغدادي هذا الرأي، ويقول:
"ولعلّ هذا ما مرّ قطّ ببال امرئ القيس، ولا خطر في وهمه، ولا وقع في خلَده، ولا رُوعه".
(خزانة الأدب، ج3، ص 244- الشاهد 191).
ذكرت المعنى المباشر- كما فهمه الزوزني والبغدادي وغيرهما، ولكن الإشكال يبقى في قوله (معًا)، فكيف يكر ويفر معًا؟
وكيف يقبل ويدبر معًا؟
كيف لا يكون التضاد؟
هنا ضرورة "الاتساع"- أو بلغة النقد الحديث "التأويل"!
يقول إيليا حاوي في كتابه (امرؤ القيس، ص 158) ما ملخصه:
أن الحصان لسرعة عدْوه تكاد لا تراه فارًّا حتى تراه كارًّا، فيختلط عليك أمر الكر والفر، فتحسب بسبب السرعة الواحد منهما الآخر، فالكر يدنو من الإقبال، ولكنه ليس إياه تمامًا، فالكر يوحي بالسرعة والانقضاض وشدة الحركة، أما الإقبال فلا ينطوي على ذلك، بل إن فيه إلماحًا إلى طلعته، والإدبار فيه إلماح إلى مؤخرته وهو متولّ، ويمكننا القول إن الشاعر ألف في هذا الشطر بين الصورة المتحركة والصورة الجامدة الساكنة.
أما في الشطر الثاني ، فالصخر هو الحصان، والسيل هو السرعة، وقد جعله منحدرًا لتعظيم زخْمه وشدته، فهذا يمثل الكرّ، فالصخر جلمود وهو أصلب أي أشد انحدارًا وقسوة، والسيل ينحط من عل، وكل هذه الأوصاف للدلالة على معنى السرعة والانقضاض.
وحتى نفهم ما عرضه إيليا حاوي أقول إن شدة الغليان في الماء ترينا فقاعات الماء في حركة الصعود والهبوط، والإقبال والإدبار معًا، ولا بِدعَ في هذا التشبيه بالغليان، فقد ورد في وصف الحصان في المعلقة:
على الذبْل جيّاشٌ كأن اهتزامه
إذا جاش فيه حِميه غليُ مِرجل
من أجمل الشروح التي قرأتها مركّزة لشرح هذا البيت ما أورده القزويني، وقد ربط بين الصدر والعجز:
"يقول إن هذا الفرس- لفرط ما فيه من لين الرأس وسرعة الانحراف- ترى كَفَـله في الحال التي ترى فيها لَـبَبه، فهو كجلمود صخر دفعه السيل من مكان عال، فإن الحجر بطبعه يطلب جهة السفل لأنها مركزه، فكيف إذا أعانته قوة دفع السيل من عل؟ فهو لسرعة تقلبه يُرى أحد وجهيه حين يُرى الآخر.
(القزويني: الإيضاح في علوم البلاغة، ص 350)