درج مؤرخو الفلسفة على اعتبار القرن السابع عشر هو بمثابة بداية الفلسفة الحديثة، ولهذه الفلسفة مقدمات كما لأي فكر من مقدمات، وتعود مقدماتها الى القرن السابع عشر وهي مقدمات تأسيسية، وكان كل من رينيه ديكارت وسبينوزا ولايبنتز..،وتضم الفلسفة الحديثة أيضا أعلاماً مثل: فرنسيس بيكون وجون لوك وديفيد هيوم وأخيراً إمانويل كانط ،وهؤلاء قد شكلوا الأساس التي انبنة عليه هذه الفلسفة.
إذا كان الفكر الفلسفى كحصيلة للعقل الإنسانى عبر مراحل التاريخ المختلفة عبارة عن سلسلة واحدة مترابطة الحلقات إلا أننا نستطيع أن نلمح فى ثنايا هذا التطور الملامح الخاصة لكل مرحلة وما تمتاز به على المراحل التاريخية الأخرى، فثمت خصائص للفكر الفلسفى الحديث يتميز بها على التراث الفلسفى للعصرين القديم والوسيط ويمكن إيجازها فى ثلاث نقط رئيسية :
عوامل النشأة:
نشأ الفكر الفلسفي الحديث في ظل ظروف تاريخية خاصة هي التي عملت على ولادته. فإذا كانت الفلسفة تعبيراً فكرياً عن عصرها وابنة هذا العصر، فإن المناخ العام هو الذي يساعد على إنضاجها. وكانت هناك عوامل عديدة أسهمت في ظهور الفكر الفلسفي الحديث، أهمها :
عامل تاريخي:
تمثل في استرداد الأسبان للأندلس في أواخر القرن الخامس عشر، مستولين بذلك على ذخائر التراث العربي التي وجودها هناك.
ظهور حركة الكشوف الجغرافية:
حيث اكتشف طريق رأس الرجاء الصالح الذي يدور حول إفريقيا، مما مكن لأوروبا طريقاً آخر للهند وشرق آسيا غير الطريق الذي يمر عبر المشرق العربي والإسلامي، واكتشف كولومبوس قارة أمريكا وفتح بذلك آفاق جديدة للتجارة مع العالم الجديد والاستيطان به. والحقيقة أن نفس هذه الفترة كانت فترة توسع الأتراك العثمانيون في أوروبا الشرقية، إذ قد نجحوا في فتح القسطنطينية سنة 1453، وكان هذا عاملاً أساسياً على إسراع أوروبا في الكشوف الجغرافية وفي التوسع في العالم الجديد، كي تعوض ما فقدته للعثمانيين في الشرق. كل هذا خلق جواً جديداً لأوروبا، تعرفت فيه على العالم وتاجرت وتوسعت واتسعت بذلك آفاقها الفكرية والأدبية والفنية، إذ لم يكن من الممكن لأوروبا التي كانت محبوسة في قارتها الصغيرة أن تنتج فكراً وآداباً إنسانية وعالمية، وقد وفرت لها الكشوف الجغرافية وحركة التجارة العالمية وحركة استيطان العالم الجديد مجالاً للإبداع الإنساني العالمي.
وتمثل ثاني عوامل نشأة الفكر الفلسفي الحديث في:
ظهور الروح العلمية الحديثة وازدهار العلوم التجريبية:
وتمثل ذلك في الثورة العلمية التي أحدثها العالم البولندي نيقولاوس كوبرنيقوس (1473-1543) باكتشافه للنظام الشمسي. كان العالم قبل كوبرنيقوس يعتقد، تحت تأثير فلسفات العصور الوسطى التي كانت تعتمد على نظام بطليموس الفلكي، أن الأرض ثابتة وفي مركز الكون، والسماء بما فيها من نجوم وكواكب وشمس وقمر، تدور حولها. لم يقتنع كوبرنيقوس بهذه الفكرة الساذجة واكتشف أن العكس هو الصحيح، أي أن الشمس ثابتة والأرض هي التي تدور حولها، وكذلك اكتشف دوران الكواكب حول الشمس، أي المجموعة الشمسية. كان هذا الاكتشاف من العوامل التي أدت إلى فقدان الثقة بكل الفلسفات والعلوم الموروثة وخاصة فلسفة أرسطو، مما مكن الفكر الأوروبي من التحرر من ثقل تراث الماضي والبحث بنفسه عن أسرار الكون.
وبعد كوبرنيقوس جاء العالم الألماني يوهانس كبلر (1571-1630) الذي أحدث ثورة أخرى في علم الفلك والرياضيات، إذ أضاف إلى نظرية كوبرنيقوس تعديلاً هاماً يذهب إلى أن دوران الكواكب حول الشمس
لا يأخذ شكل الدائرة الكاملة بل الشكل البيضاوي، كما اكتشف أن حركة الكوكب تتسارع في مداره عندما يقترب من الشمس وتتباطأ عندما يبتعد عنها، وكان هذا مما ساعد اسحق نيوتن بعد ذلك على اكتشاف القوانين العامة للجاذبية. وكذلك اكتشف كبلر العلاقة الوثيقة بين علم الفلك والرياضيات، حيث أدرك أن الرياضيات هي أداة البحث في الفلك والفيزياء عامة. كما أحدث العالم الإيطالي جاليليو (1564-1642) ثورة علمية أخرى عندما اكتشف العلاقة بين الكتلة والسرعة وبين الساكن والمتحرك في الأجسام في حالة الاصطدام، وظاهرة تسارع وتباطؤ السرعة، ووضع نظرياته في صورة رياضية دقيقة مما مكن العالم من اكتشاف الطابع الرياضي للقوانين الفيزيائية. كما دافع جاليليو عن نظرية كوبرنيقوس في المجموعة الشمسية وأجرى عدداً من الملاحظات الفلكية تؤيد تلك النظرية واكتشف عدداً من أقمار كوكب المشترى. ومن أجل تبنيه ودفاعه عن نظرية كوبرنيقوس اتهمته الكنيسة وخضع لمحكمة التفتيش وصدر في حقه حكماً بالحرق لكنه لم ينفذ، وظل جاليليو تحت الإقامة الجبرية المقيدة في منزله قرب فلورنسا، حيث فقد بصره وتوفى.
وثالث عوامل نشأة الفكر الفلسفي الحديث هو:
ظهور عصر النهضة الأوروبية:
ابتداء من القرن الخامس عشر، وقد كانت نهضة شاملة، فكرية وأدبية علمية. ظهرت بدايات عصر النهضة عندما فتح الأتراك القسطنطينية سنة 1453 واسترد الأسبان آخر جزء من الأندلس وهو غرناطة في تسعينات القرن الخامس عشر، وانتقل بذلك التراث اليوناني والروماني إلى غرب أوروبا، فظهرت حركة واسعة لإحياء الآداب اليونانية واللاتينية( ). كانت هذه الآداب تركز على الإنسانيات مما أدى إلى ظهور نزعة إنسانية قوية في الفكر الأوروبي، ولم يمنع إحياء التراث اليوناني الفكر الأوربي من أن يأخذ موقفاً نقدياً منه، فقد توافق هذا الإحياء مع نقد واسع وشامل لفلسفة أرسطو عن طريق الاستعانة بفلسفة أفلاطون وأفلوطين والأفلاطونية المحدثة، وظهر هذا بصورة واضحة لدى جيوردانو برونو (1548-1600) وتوماسو كامبانيلا (1568-1639)، أو الاستعانة بالمنهج التجريبي في حالة فرنسيس بيكون، إن نقد المنطق الصوري الأرسطى الذي يعتمد على مقدمات عامة نظرية وعقلية صرف وأكد على ضرورة الاعتماد على الملاحظة والتجربة والاستقراء.
وتمثل رابع عوامل نشأة الفكر الفلسفي الحديث في :
حركة الإصلاح الديني:
بقيادة مارتن لوثر (1483-1546) وجون كالفن. هدفت هذه الحركة تجديد الدين المسيحي بالتخلص من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية والعودة إلى جوهر المسيحية الصافي في منابعها الأولى دون أية تأويلات أو عقائد نظرية جامدة يفرضها رجال الدين، وظهرت بذلك الحركات البروتستانتية التي تركز على الجوانب الأخلاقية من رسالة المسيحية، وتؤكد على قيم الزهد والعمل، وعلى الضمير الإنساني اليقظ، وعلى استقلال الإنسان بحيث يكون موجهه الأول هو الكتاب المقدس نفسه دون وساطة من كهنوت أو مؤسسة دينية. وأعطت حركة الإصلاح الديني الحرية لكل إنسان في أن يفهم الكتاب المقدس وحده دون استعانة بأحد، واثقة بذلك من قدرة العقل الإنساني والضمير الحي على الفهم وعلى تبني الرسالة والعمل بها. ولذلك عمل لوثر على ترجمة الكتاب المقدس الذي كان مكتوباً باللاتينية وحكراً في يد رجال الدين وعلماء الكنيسة والمثقفين، إلى الألمانية وهي أول لغة أوروبية حديثة يترجم إليها الكتاب المقدس، وتوالت الترجمات بعد ذلك إلى كل اللغات الأوروبية، مما وضع الكتاب المقدس أمام الجمهور الأوروبي في كل قومياته، وكان هذا عاملاً على إتاحته للنظر والفهم المختلف والتفسيرات المتعددة. أكدت حركة الإصلاح الديني على أهمية الإنسان وضميره الفردي ومسئوليته الشخصية، وكانت عاملاً على نضوج النزعة الإنسانية الفردية والاستقلال الفكري.
منهج دراسة الفلسفة الحديثة
تبين مما سبق أن الإنتاج الفلسفى الحديث يمتاز عما سبقة بالأثر الفردى الواضح أى بظهور شخصية الفيلسوف ونزعاته المميزة فى الإنتاج الفلسفى الخاص ، وعلى هذا فإذا أردنا ندرس مذهب أى فيلسوف من المحدثين فإنه يتعين علينا أن نضع نصب أعيننا ثلاثة شروط هامة أهمها:
أولاً : دراسة العلاقة المنطقية بين مذهب الفيلسوف والمذاهب السابقة عليه واللاحقة له.
ثانياً : اعتبار الفيلسوف ممثلاً لعصره ومترجماً عن التيارات العلمية والدينية والأخلاقية والاقتصادية فى العصر الذى يعيش فيه وفى البيئة التى يترعرع فيها.
ثالث هذه الشروط وهو شرط من الشروط الهامة واهتمت به مدرسة التحليل النفسى المعاصرة وهو الاهتمام بدراسة حياه الفيلسوف الخاصة وشخصيته.
التمييز بين العقلانية والمذهب العقلي
ويجب أن نميز في البداية بين العقلانية باعتبارها خاصية عامة للفلسفات الحديثة Rationality عن التيار العقلي Rationalism. أغلب فلاسفة العصر الحديث عقلانيون، أي يتمسكون بقدرة العقل على إدراك الواقع ويذهبون إلى أن كل سلوك إنساني صادر عن التفكير وعن استخدام الملكات الذهنية العليا، لكنهم ليسوا كلهم عقليون. التيار العقلي هو التيار الذي يضم ديكارت والمدرسة الديكارتية، وسبينوزا ولايبنتز ومالبرانش، وهو يتصف بكونه يعطي الأولوية للعقل في المعرفة وينظر إليه على أنه المصدر الأساسي لكل معرفة وكل علم، وذلك في مقابل المذهب التجريبي الذي يتصف بإعطاء الأولوية للخبرة التجريبية كمصدر أساسي للمعرفة، وما العقل في هذا المذهب سوى ملكة تنشأ عن الانعكاس على عمليات الإدراك الحسي. وليس معنى هذا أن التجريبيين ليسوا عقلانيين، بل على العكس، إذ هم عقلانيون تماماً، لكن تصورهم عن العقل يختلف عن تصور المذهب العقلي؛ إنهم يعترفون بدور العقل في المعرفة، لكنهم ينظرون إليه على أنه ملحق بالحس والخبرة التجريبية