العصر الجاهلي أقدم العصور الأدبية ويسميه بعض الدارسين عصر ما قبل الإسلام. وهو عصر موغل في القدم، بعيد العهد في الزمن والامتداد.
وموطن هذا الأدب العربي القديم هو الجزيرة العربية، أو شبه جزيرة العرب، ذات الصحارى الواسعة، والبطاح الممتدة، التي تحيط بها - أو تتخللها - جبال وهضاب مختلفة، منها ما يحاذي البحر الأحمر غرباً، ومنها ما يقع في اليمن جنوباً. فضلاً عن هضبة نجد التي ترتفع ممتدة في وسط الشمال، لتضم سلسلة أخرى من الجبال.
وهذه المناطق جميعاً كانت في العصر الجاهلي ميادين لحروب وغزوات، ولأحداث سياسية، وظواهر اجتماعية وتجارية واقتصادية، وأثرت في الأدب الجاهلي، شعره ونثره.
كلمة الجاهلية يراد بها الحال التي كان عليها العرب قبل الإسلام، وقد استحدثت هذه الكلمة بنزول القرآن وأطلقت على الزمن الذي كان قبل البعثة حتى فتح مكة وإرساء قواعد الدولة الجديدة.
والملْحَظ في التسمية الحماسة بتحكيم العصبية والقوة، والجهل الذي يناقض الحلم والأناة ويفيد التسرع إلى الشر، ومنه قول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلـــن أحــــد علينــــا فنجهــــل فــــوق جهل الجاهلينـــا وقد ارتدى هذا اللفظ لبوساً إسلامياً يفيد الانغماس في الضلال والبعد عن طريق الهداية إضافة إلى الدلالة السابقة.
وقد تطلق الكلمة مجازاً على جماعة الجاهلية وأنصارها، كما جاء في آية التنزيل ]يظنّونَ باللهِ غيرَ الحقِّ ظَنَّ الجاهلية[ (آل عمران 154).
فالكلمة قرآنية الاشتقاق. ومن أقوال ابن عباس: «سمعت أبي في الجاهلية يقول...» ومن ثم نسبوا إليها فقالوا: «جاهلي»، في الشعراء والخطباء والحكماء.
الشعر الجاهلي
ومهما يكن من أمر، فقد ورثنا عن تلك الحقبة الجاهلية أدباً ناضجاً في لغته وشعره ونثره، ولكن هذا الأدب الذي وصل إلينا لا يشمل الحقبة كلها، قبل الإسلام، ذلك أننا لا نملك نصوصاً مدونة عن مبدأ الشعر عند العرب، وعن تطوره حتى بلوغه المرحلة التي كان عليها عند ظهور الإسلام. والمعروف أن أقدم ما وصل إليه علمنا من ذلك الشعر لا يرقى عهده إلى أكثر من قرنين عن الهجرة. وقد أشار الجاحظ إلى قضية قدم الشعر العربي فقال: وأما الشعر فحديث الميلاد، صغير السن.. فإذا استظهرنا الشعر وجدنا له - إلى أن جاء الإسلام - خمسين ومئة عام. وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمئتي عام.
ومن أقدم الشعراء الذين عرفنا أخبارهم ووصلتنا أشعارهم امرؤ القيس بن حجر الكندي، الذي يقال إنه أول من وقف بالديار واستوقف وبكى واستبكى، لكنه هو نفسه يذكر شاعراً آخر أقدم منه، بكى الأطلال قبله، وهو ابن خذام، فيقول:
عــوجا على الطلل المحيل، لعلنا نبكي الديـــار كما بكى ابن خذام
ولم يكن بنو كلب بدعاً في القبائل، فكل قبيلة ادعت لشاعرها أنه الأول أو الأقدم: فامرؤ القيس في اليمانية، وعبيد بن الأبرص في بني أسد، ومهلهل بن ربيعة في تغلب، وعمرو بن قميئة والمرقش الأكبر في بكر، وأبو دواد في بني إياد. وهؤلاء جميعاً متقاربون في الزمن، ولم يعثر العلماء على شعر قديم مدون بقلم جاهلي، وكل ما يعرف من هذا الشعر مستمد من أفواه الرواة الذين كانوا يتناقلون الأشعار الجاهلية عن طريق الرواية والحفظ. وتعود أسباب ذلك إلى انتشار الأمية عند العرب، وقلة وسائل التدوين والكتابة لديهم، إذ اقتصر على الحجارة الرقيقة، والجلود، والعظام، وسعف النخيل، وما إليها. ومن ثم كان المعلمون قلة بينهم.
وفي بعض الأشعار الجاهلية إشارات إلى وجود الكتابة ونقوشها، وهي ترد في مطاوي وصف الشعراء للأطلال والرسوم الدارسة، كقول الأخنس بن شهاب التغلبي، مشبهاً أطلال المحبوبة بالكتابة على الجلد الرقيق:
لابنةِ حطّان بــن عوف منــــازل كما رقش العنوان في الرق كاتبه
على أن استعمال الكتابة يقتصر على شؤون من الحياة الاجتماعية والتجارية وما إليها، مما يكون ميدانه النثر، من دون الاتكاء عليها في كتابة الشعر؛ لأن العرب كانوا يعتمدون في حفظ الأشعار على الرواية الشفوية، حتى في خطبهم ووصاياهم وأمثالهم، يسعفهم في هذا الحفظ ذاكرة قوية تأنس بموسيقى الشعر وأوزانه، خاصة، واعتادت ذلك حتى صارت سجية من سجاياهم، وطبيعة متأصلة فيهم، فضلاً عن حبهم للشعر وعنايتهم الفائقة بروايته وتناقله، لأنه ديوان مناقبهم، وسجل حياتهم وانتصاراتهم، ولم يكن لهم - كما يقول ابن رشيق - علم أصح منه. فلا غرو أن يكون دعامة السّامرعندهم، ومدارَ حلقات القوم لديهم، في مواسمهم وندواتهم، وقد أدى ذلك أيضاً إلى ظهور حلقات من الشعراء الرواة، الذين يأخذ بعضهم عن بعض، مما يمكن أن يسمى اليوم بالمدارس الشعرية، وأشهرها تلك التي تبدأ بأوس بن حجر، وعنه أخذ الشعر ورواه زهير ابن أبي سلمى. ولزهير راويتان: ابنه كعب، والحطيئة، وكان هدبة بن الخشرم راوية الحطيئة، وعن هدبة تلقن الشعر ورواه جميل بن معمر، صاحب بثينة، وراوية جميل هو كثير عزة، الذي يُعد آخر من اجتمع له الشعر والرواية.
و«لما جاء الإسلام شغل العرب والمسلمون عن الشعر بالغزو والفتوح. ولما اطمأنوا بالأمصار، واستقرت دولتهم، راجعوا رواية الشعر - كما يقول ابن سلام - فلم يؤولوا إلى ديوان مدون، ولا كتاب مكتوب. وألفوا ذلك وقد هلك من العرب من هلك بالموت والقتل، فحفظوا أقل ذلك، وذهب عليهم منه كثير».
ومع ذلك، فقد نشطت رواية الشعر في القرن الهجري الأول، لأسباب مختلفة، ولازمها بعد قليل نشاط حركة التدوين عامة، ونشأت طبقة من الرواة الذين يتخذون رواية الأخبار عن الجاهلية وأيامها. وكان من نتائج ذلك وجود شعر مفتعل صنعه الرواة الوضاعون، ونسبوه إلى شعراء جاهليين، سنداً لعصبية قبلية، أو رفداً للقصص والأخبار، أو إذاعة لنزعة شعوبية، أو إرهاصاً للبعثة النبوية.
وقد عرف بالوضع من رواة الكوفة: خلف الأحمر، وحماد الراوية، كما اشتهر - إلى جانبهم - رواة ثقات من أهل البصرة والكوفة: كالمفضل الضبي، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وأبي عمرو بن العلاء، والفراء، وابن سلام، وغيرهم، ميزوا الشعر الصحيح من الشعر الزائف، وكان في مقدمة هؤلاء ابن سلام الجمحي الذي عالج هذا الموضوع مفصلاً في طبقاته، ومما قاله: وليس يشكل على أهل العلم زيادة الرواة، ولا ما وضعوا، ولا ما وضع المولدون. كما أن في كتاب «الأغاني» إشارات كثيرة إلى أشعار منحولة، وأخبار موضوعة، نص عليها أبو الفرج بعد أن تفحص رواياتها، ورجع إلى دواوين الشعراء أنفسهم.
ومع كل هذه الجهود، وغيرها، التي حرص أصحابها على تنقية الشعر القديم من الشوائب الزائفة، وإيصاله إلينا صحيحاً موثقاً، قام في العصر الحديث لفيف من المستشرقين والدارسين العرب يثيرون قضية النحل والانتحال في الشعر الجاهلي، ويشككون في صحة هذا الشعر، على تفاوت فيما بينهم، شططاً وتحاملاً، أو اعتدالاً وحياداً، وبلغ الأمر ذروته عند المستشرق الإنكليزي مرغليوث Margoliouth الذي نشر سنة 1925م مقالة له بعنوان «أصول الشعر العربي» أنكر فيها صحة الشعر الجاهلي جملة، وأقام مذهبه هذا على مزاعم وتصورات متناقضة، جعلت بعض المستشرقين أنفسهم يردون عليه ويفندون آراءه، ومنهم جيمس لايل Lyalle ناشر المفضليات.
وفي مصر قام طه حسين يحذو حذو مرغليوث، حين نشر سنة 1926 كتابه «في الشعر الجاهلي» وضمنه آراء جريئة جعلت بعض العلماء والنقاد يردون عليه: كالرافعي، ومحمد فريد وجدي، ومحمد الخضري، ومحمد لطفي جمعة، ومحمد الخضر حسين.
وأدى ذلك إلى أن يعيد طه حسين النظر في كتابه، تعديلاً وحذفاً وزيادة، ويصدره في العام التالي 1927 بعنوان آخر: «في الأدب الجاهلي» بعد أن ضم إليه بحث النثر الجاهلي، وأفاض في شرح نظريته وتطبيقاتها، ووقف عند أسباب الوضع والنحل في الشعر العربي، كما أوضح أسباب الشك في الشعر الجاهلي، ودوافعه، ولخص ذلك بقوله: «إن الكثرة المطلقة - مما نسميه أدباً جاهلياً - ليست من الجاهلية في شيء، وإنما هي منحولة بعد ظهور الإسلام، فهي إسلامية تمثل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم، أكثر مما تمثل حياة الجاهليين».
ولم يسلم - مع ذلك - كتاب طه حسين الثاني من النقد والتفنيد. ومرت السنوات بعد ذلك، ولم يكتب لنظرية طه حسين وأمثاله القبول التام، وإن أيقظت الأذهان، ولفتت الأنظار إلى ضرورة التثبت من صحة الشعر الجاهلي، بل صحة كل شعر، قبل روايته أو الاستشهاد به.
ويضاف إلى ذلك ظهور كتب ودراسات جديدة زادت من توثيق الشعر الجاهلي وتصحيح ما صحّ منه، ونوّهت بكثير من مصادره الأصلية، وفي مقدمة هذه الكتب كتاب «مصادر الشعر الجاهلي» لناصر الدين الأسد. وقد وجد الباحثون المعاصرون بين أيديهم عدداً من مصادر الشعر الجاهلي التي جاءت عن طريق الرواة الأمناء الصادقين، الذين وقفوا جهودهم على التحري والتثبت، ولم يخف عليهم وجود شعر جاهلي منحول كشفوا جانباً منه.
ولقد حازت آثار أولئك الرواة القبول والتقدير، وعُدّت مصادر أساسية للشعر الجاهلي. وأهم هذه الآثار:
ـ دواوين الشعراء القدماء، التي جمعت في عصر التدوين: كزهير، والنابغة، وامرئ القيس.
ـ دواوين القبائل العربية: كديوان الهذليين، الذي لم يصل إلينا كاملاً.
ـ المجموعات الشعرية الموثوق بها: كالمعلقات وشروحها، والمفضليات، والأصمعيات، والنقائض وشروحها، والحماسات.
ـ كتب الأدب، واللغة، والنحو: كالبيان والتبيين، والحيوان، ومجالس ثعلب، وعيون الأخبار، والكامل، والأمالي. وكذلك بعض كتب المتأخرين التي احتفظت بكثير من الأشعار الجاهلية التي ضاعت أصولها: كخزانات الأدب، وشرح أبيات مغني اللبيب، وكلاهما للبغدادي، وشرح شواهد المغني للسيوطي.
ـ الكتب النقدية البلاغية: كالموشح، والصناعتين، والموازنة والوساطة.
ـ كتب التراجم والطبقات: كمعجم الشعراء، والمؤتلف والمختلف، وطبقات ابن سلاّم، والشعر والشعراء، والأغاني.
فهذه المصادر وأمثالها، تجعل بين أيدينا مادة وافرة للشعر الجاهلي، وهذه المادة غنية وكافية، لكي تهيئ للدارسين مجالاً واسعاً للبحث والتحليل والموازنة، في رحاب أغراض ذلك الشعر وفنونه المختلفة.
فنون الشعر الجاهلي وأغراضه: هذا الشعر، الذي قيل فيه إنه ديوان العرب، يعد صورة للبيئة التي نشأ فيها أصحابه قبل الإسلام في كثير من جوانبها الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والمعرفية، والدينية، كما يعكس ذلك الشعر طائفة من الجوانب النفسية، والمثل الأخلاقية للعرب، من شجاعة وفروسية وفتوة، ومن إكرام للضيف وإغاثة للصَّريخ وغير ذلك.
ومن ثم تعددت أغراض الشعر الجاهلي وفنونه، فكان فيه غزل، ومدح، كما كان فيه فخر، ورثاء، وهجاء، فضلاً عن الحكمة والوصف.
ووجود هذه الفنون والأغراض في الشعر الجاهلي، لا يعني أن القصيدة منه كانت خالصة دائماً لموضوع واحد، وأغراض لا تحيد عنه، فقد تضم غرضين أو أكثر، ولكنها تنسب إلى ما نظمت من أجله، هجاء، أو مدحاً، أو فخراً، وإن تخللتها موضوعات جانبية أخرى.
وأما أشهر الأغراض والفنون في الشعر الجاهلي فهي.
الغزل: يكاد الغزل يفوز بالنصيب الأوفى بين سائر الأغراض الأخرى، على تفاوت حظوظ الشعراء الجاهليين منه، ذلك أنه أعلق الفنون الشعرية بالأفئدة، وأقربها إلى النفوس، لما للمرأة من آثار عميقة في حياة الرجل، وتغذية عواطفه وأحاسيسه، ومرافقته في حله وترحاله، وفي حربه وسلمه، وزيارته لأحبته وذوي قرباه، ووقوفه على أطلالهم بعد الرحيل والفراق.
وفي موضوع الغزل، تتردد عند النقاد والدارسين، من قدماء ومعاصرين، أربعة ألفاظ تتقارب في مفهومها، وتتشابك في دلالاتها، وهي: الغزل، والتغزل، والنسيب، والتشبيب.
وقد حاول بعضهم أن يبين الفروق المعنوية بينها، ولكنهم لم يصلوا إلى القول الفصل في ذلك.
ومن أبرز سمات الغزل عند الجاهليين، ظاهرة التعلق بالمرأة والسعي إلى مودتها، ووصف مفاتنها الجسدية. وإمام الشعراء في ذلك هو امرؤ القيس، الذي قضى شبابه في اللهو والشراب، وأصاب من الغزل والمرأة ما جعله السابق المجلّي في هذا المضمار. وأشعاره، ولاسيما معلقته، صُوَرٌ وحكايات لما كان بينه وبين النساء.
وكذلك ثمة جانب من هذا المذهب الحسي، في الحديث إلى المرأة وفي وصفها عند شعراء آخرين كالأعشى والنابغة الذبياني. ويمكن الخروج من قراءة أشعارهم الغزلية إلى جملة من المقاييس التي كانوا يعتدون بها في تقويم الجمال، والمفاتن الجسدية: فالمرأة تشبه بالدرة الصدفية حيناً، والدمية المرمرية حيناً آخر. وأصابعها لينة كالعَنَم، ولونها المفضل هو البياض، وخصرها ضامر نحيل، بخلاف ردفها الذي يستحسن أن يكون ثقيلاً مكتنزاً وساقيها اللتين يستحب أن تكونا ممتلئتين، والشعر طويل فاحم، والأسنان بيضاء نقية، والمشية هينة مترسلة.
وقد ينصرف الشاعر في غزله إلى التغني بفضائل المرأة وذكر مناقبها وكريم سجاياها، وعفتها، ولا سيما عند وقوفه على الأطلال توخياً لتهيئة الأذهان وشد الأسماع قبل الوصول إلى غرضه الأساسي.
أما تصوير الشاعر الغزِل لما يقاسيه من تباريح الصبابة، وما يعانيه من عذاب مقيم، وآلام مبرحة، وهيام طاغ، فهذا كله منبث في أشعار المتيمين من الجاهليين الذين قضوا حياتهم يعانون ألم النوى، ويقضون الليل ساهرين أرقين ويشكون من تجني المحبوبة، حتى تنحدر دموعهم، وتتقرح أكبادهم.
والشعراء، الذين سلكوا هذا المذهب، معظمهم من العشاق الذين عرفوا بالعفة والبعد عن الأوصاف الحسية للجسد، ومعاناة الأشواق اللاذعة، ويمكن أن يعد غزلهم النواة الأولى للغزل العذري الذي عرف في العصر الأموي، ذلك أن كل واحد منهم اقترن اسمه بصاحبته التي اشتهر بها، ومنهم عنترة صاحب عبلة، ومثلا المخبَّل السَّعدي ومَيْلاء، وعبد الله بن العَجْلان وهند، وغيرهم.
المديح: كانت للناس في العصر الجاهلي مثل عليا، ومعايير خلقية تعارفوا عليها، وورثوها عن أجدادهم، كالشجاعة والكرم، وحماية الجار، وإغاثة الملهوف وعراقة النسب. وجاء شعر المديح ليشهد بهذه السجايا وما هو منها بسبب: كالعقل، والعفة، والعدل، والرأي السديد. وقد يستدعي المقام والمناسبة ذكر مناقب أخرى تأتي في ساعتها: من جميل يؤثر، وصنيع يقدم، وأسير يطلق سراحه، فيكون الاعتراف بذلك الجميل، والشكر لذاك الصنيع.
وهكذا قام المديح مقام السجل الشعري في رسمه لنواح كثيرة من حياة الأعلام، ملوكاً، وسادة، وأجواداً، وبذلك أغنى التاريخ وكان رديفاً له ومتمماً، وإن كان يمتزج غالباً بالإسراف والمبالغة، ويختلط فيه الواقع بالخيال، والعقل بالعاطفة والحق بالباطل. ولذلك ينبغي أن يقف الباحث من شعر المدح موقف الحذر والنقد والتمحيص، وألا يأخذه على أنه صدق لا كذب فيه، أو حقيقة لا يشوبها الشك.
وقد سلك الشعراء المدَّاحون في العصر الجاهلي طريقين، أحدهما أو كليهما، الأول هو طريق التكسب والاحتراف، وميدانه قصور الملوك، ومجالس الأمراء، وأفنية الأشراف والأعيان. وقد انحرف الشعر إلى هذا الميدان على يد النابغة الذبياني، الذي سن للشعراء سنة المديح الرسمي - في تنقله بين قصور المناذرة والغساسنة - ومدح ملوكهم، كما سخر شعره لكل من يجود عليه أو يرعاه في كنفه، وكان هذا أول الاحتراف في المديح والتكسب به. وقد حظي النعمان بن المنذر بنصيب وافر من ذلك.
وجاء الأعشى ليسير على سنن النابغة في المديح، بل إنه أسرف في المسألة والتكسب، فأصبح يمدح كل من أعطى، ويشكر بشعره كلَّ من أكرم، حتى يخرج عن حدود التصديق، كما في مديحه للأسود بن المنذر اللخمي - شقيق ملك الحيرة - ولهوذة الحنفي.
ومن هؤلاء الشعراء المتكسبين أيضاً: حسان ابن ثابت، والمسيب بن علس، والمنخل اليشكري، والممزق العبدي، والحارث بن ظالم، وعلباء بن أرقم.
أما الطريق الثاني: فهو طريق الإعجاب والشعور الصادق. والشعر هنا يصدر - فيما يقول - عن حب عميق، وإحساس نقي، لا تملق فيهما ولا تزلف. وحامل لواء هذا الشعر هو زهير ابن أبي سلمى، الذي سخر شعره لكل من قام بإصلاح ذات البين، أو صنع مأثرة كريمة، نائياً بأشعاره المدحية عن المبالغة والشطط.
ومن ممدوحيه: هرم بن سنان، والحارث بن عوف، اللذان أصلحا بين عبس وذبيان، في حرب داحس والغبراء، وبذلا من أموالهما ديات القتلى حقناً للدماء، ونشراً للسلام بين المتحاربين.
الفخر: وهذا فن شعري تربطه بالمدح صلات وشيجة، فالمعاني التي تتردد في المدح، هي نفسها مما يتغنى به الشعراء مفتخرين. ذلك أن الحياة العربية في العصر الجاهلي قامت على مواجهة المخاطر، والمزاحمة على الماء والكلأ، والشجاعة في القتال، وما يتصل من ذلك كله بسبب: كالتغني بالبطولات وشن الغارات، وتمجيد الانتصارات، وكثرة العدد والعدة، ومنازلة الأقران، ونجدة الصريخ، والحفاظ على الشرف والجار، وهذه الأمور جميعاً أذكت قرائح الشعراء، ووفرت لهم أسباب التفاخر والتباهي، منفردين ومجتمعين، فانطلقت ألسنتهم بأشعار زاخرة بالعاطفة القوية، والانفعال العميق، تبرز فيها الحقائق التاريخية مجلببة بجلباب الخيال والمغالاة.
وهذا الفخر يكون قبلياً تارة تسيطر عليه روح حماسية جارفة، وهذا شأنه دائماً في مواطن الكر والفر، والأخذ بالثأر وتضييق الخناق على الأعداء، واستطابة الموت عند الحرب، إذ ينطوي شعر الفخر على دفقات قوية من الحماسة، ويكون من ذلك مزيج متلازم. ومن خير ما يمثل هذا الفخر القبلي الحماسي معلقة عمر بن كلثوم التغلبي، التي سجل فيها انتصارات قبيلته، ومنعتها، وما يتحلى به أفرادها من شجاعة وإقدام، وسطوة وهيبة وأنفة وإباء.
وهذه الحماسة المزهوة لا تحول دون إنصاف الشاعر لأعدائه، والإقرار بقوتهم وشجاعتهم، وعرفت في الشعر الجاهلي قصائد من هذا القبيل سميت «المنصفات» ومن أصحابها: العباس ابن مرداس، وعوف بن الأحوص، وخداش بن زهير.
ويكون الفخر تارة أخرى ذاتياً ينبعث من نفوس تهوى العزة والمجد، وتحرص على بناء المكارم، والتباهي بمآثرها الفردية، ويبدو هذا الفخر الذاتي لدى طائفة من الشعراء الفرسان والأجواد، كعنترة، وحاتم الطائي، وعمرو بن الإطنابة، والشعراء الصعاليك كالشنفرى، وتأبط شراً، وهنا يحلو للشاعر أن يتحدث عن نفسه وخصاله، وعراقة أصله، وطيب منبته، ومايتحلى به من كرم ومروءة وحماية للجار، وغير ذلك من الفضائل الخلقية. وفي معلقات طرفة بن العبد، ولبيد بن ربيعة، وعنترة بن شداد، صور كثيرة من هذا الفخر الفردي، تتلاقى على صعيد واحد، وقد وشحها أولئك الشعراء بذكر القصف واللهو، والفخر بشرب الخمرة في معرض الحديث عن الكرم والإكرام.
الرثاء: يلتقي الرثاء والمديح في أنهما كليهما إشادة بالمرء وإعلاء شأنه، لكن الأول إشادة بالميت وخصاله، والثاني إشادة بالحي وتمديد لمآثره وسجاياه. ويمتاز الرثاء أيضاً بأنه فن شعري ثابت المعاني والهدف، لأنه يعبر في معظم أحواله عن انفعال وجداني، وشعور عميق بالحزن والألم، حين تفقد الأسرة أو القبيلة، عزيزاً فيغمرهم الحزن وتتحرك الشاعرية لتعبر عن الأسى المشترك، والخسارة الفادحة والمجد الذي انهد ركنه، والشمائل التي حكم بها الموت للقبر والتراب. وقد يصحب تعداد شمائل الميت، والبكاء عليه، أخذ بأسباب العزاء فيه، ودعوة إلى الصبر على حدثان الدهر، والتأسي بمن طوتهم المنون من قبل، لأن الدنيا دار فراق وزوال، لا دار خلود وبقاء، وليس أمام الإنسان سوى الاستسلام للأقدار، والقبول بالقضاء.
هذه المعاني والأفكار، في جملتها تتردد في أشعار الرثاء عند الجاهليين، وقد يطغى جانب منها في القصيدة على آخر، أو تتفرع عنها معان جرئية، ولكن تظل المناحي الأساسية بارزة في تلك الأشعار.
وإذا كان المرثي ذا منزلة رفيعة لجأ الشاعر إلى المبالغة وتهويل الخطب وإشراك الطبيعة في استعظام المصاب.
وقد اشتهر عدد من الشعراء أجادوا الرثاء في العصر الجاهلي، منهم: المهلهل بن ربيعة، ودريد بن الصمة، وأعشى باهلة، ولبيد، وطفيل الغنوي، وأوس بن حجر، وأبو دواد الإيادي. كما عرف كثير من النساء بإجادة هذا الفن الشعري والنبوغ فيه، كالخنساء، وجليلة زوجة كليب، وسعدى بنت الشمردل.
والرثاء عند هؤلاء الشعراء والشواعر، منه ما يكون في الأقرباء الأدنين: كما في رثاء المهلهل لأخيه كليب، والخنساء لأخويها صخر ومعاوية، ولبيد لأخيه أربد. ومنه ما يكون في أناس آخرين، من ذوي المكانة والشأن في قبيلة الشاعر، أو في غيرها من القبائل، ممن تقربهم إلى الشاعر صلات وثيقة. ومن ذلك قصيدة أوس بن حجر، التي رثى فيها فضالة الأسدي، وتعد من عيون المراثي في العصر الجاهلي: ومطلعها:
أيتهــا النفــــس أجملــي جـــزعاً إن الـــذي تحـــذرين قــد وقعــا
وقصيدة أبي دواد الإيادي، التي رثى فيها من طواهم الردى من شباب قبيلته وكهولها، وذكر ما لهم من صفات ومفاخر ومجد، وأشاد بما كان لهم من بأس وسخاء في أوقات الشدة والجدب، وما تحلوا به من عقول راجحة وآراء سديدة. وأول هذه القصيدة:
منـــع النـــوم، مـــاوي، التهمام وجـــدير بالهـــم مـن لا ينــــام
والرثاء عند الجاهليين يكثر فيه ترداد ألفاظ معينة، كالجملة الدعائية: «لا تبعد» أو «لا تبعدن» كما يكثر الدعاء بالسقيا لقبر الميت: «سقيا لقبرك» «سقاك الغيث» وذلك ليبقى ما حول القبر خصباً ممرعاً.
الهجاء: حظ هذا الفن في الشعر الجاهلي قليل؛ إذا قيس إلى الفخر أو الغزل مثلاً؛ ولكن أثره كبير في النفوس، ووقعه أليم في الأفئدة، لأنه يقوم على إذلال المهجو، وتجريده من الفضائل والمثل التي يفتخر بها القوم، أو التي بها يمدحون. ومن ثم الفخر، والمدح، والهجاء، تجمع ثلاثتها جملة من الفضائل وأضدادها، فالكرم، مثلاً، فضيلة لديهم، وفي مقابله تكون نقيصة البخل والشح، والشجاعة ضدّها الجُبن. وهكذا.
وعلى هذا، فإن الهجاء في الشعر الجاهلي هو انتقاص للخصم، وتعيير له بجملة من المخازي والمساوئ التي يستهجنها مجتمعه، فمنها ما هو في مجال الحروب والغزوات التي حفلت بها حياتهم: كالجبن، والفرار عند اللقاء، والوقوع في الأسر، ودفع الفدية، ومنها ما هو في حيز العلاقات الاجتماعية، والنقائص النفسية: كالبخل، والاعتداء على الجار، واللؤم، والغدر، والقعود عن المكارم، وما يتفرع عن ذلك كله من المعايب والسقطات التي يعدها العربي عاراً يبرأ منه، أو يحذر الوقوع فيه، لئلا يصيب منه الشاعر مقتلاً. فضلاً عما تحرص عليه القبيلة في أفرادها كافة من كرم الأحساب، ونقاء الأنساب، لئلا تتحطم سمعتهم، أو ينهار بناء أحسابهم وأنسابهم، فيكونوا نصباً للهجاء.
والهجاء عندهم على ضربين: هجاء فردي، وآخر جماعي يتجه إلى القبيلة نفسها وقد يجمع الشاعر بينهما.
وهجاء الجاهليين عامة يسلك مسلك الجد. ولا يدخله الإفحاش ولا الشتيمة الصريحة، ولكن ربما داخله شيء من السخرية والتعريض والتلميح الموجع، بدلاً من الهجاء المباشر.
الحكمة: الحكمة قديمة في أشعار الجاهليين، لأننا نعثر عليها عند أوائلهم، كامرئ القيس وعبيد بن الأبرص، كما حفلت بها قصائد الشعراء الآخرين على مر السنين. وحكمهم مستمدة من بيئتهم التي عاشوا في كنفها، حرباً وسلماً، وعلاقات وعادات، وأخلاقاً وسجايا.. وهذه الحكم صدى لصفاء الفطرة، ودقة الإحساس، وغنى التجارب، والقدرة على استخلاص العبرة من الحوادث، ولا تخلو، في الوقت نفسه، من قيمة تاريخية، ودلالة اجتماعية، ونواح أخلاقية، وفلسفة عملية تختلف من زمن إلى زمن، ومن إنسان إلى آخر، لأنها تعبر عن آراء أصحابها، ومواقفهم من الحياة والناس، وتفكيرهم في تقلبات الأيام. وتحمل في طياتها نظرات ثاقبة، وبصيرة واعية، إزاء قضايا الناس والحياة، ويسوقها الشاعر في مطاوي القصيدة أو في نهايتها.
وتعد المعلقات أوضح الأمثلة للقصائد التي تحفل بالحكم، على تنوع موضوعاتها وأغراضها، كمعلقة زهير، التي أرسل فيها نحو العشرين بيتاً، وبدا في سردها هادئ النفس، رصين التأمل، واقعي التناول لقضايا الحرب والسلم، والحياة والموت، وخفايا النفس الإنسانية.
وأما طرفة، الشاعر الشاب، فإن حكمه في معلقته تنبع من شخصيته العابثة، التي تريد أن تستبق اللذات قبل أن يفاجئها الموت، لأن الحياة أشبه بكنز يتناقص شيئاً فشيئاً، والموت سيأتي على كل حي، ولا راد لما يأخذ.
وتنبث الحِكم في قصائد الشعراء الآخرين: كلبيد، وعبيد بن الأبرص، وحاتم الطائي، وأوس ابن حجر وعلقمة بن عبدة، والأفوه الأودي. وانفرد منهم أمية بن الصلت بالإكثار من الحكم التي تعتمد على أخبار الأديان والأمم الغابرة، وقراءة الكتب، ولذلك اجتمعت فيها روافد التجربة والثقافة معاً. وكان طابعها دينياً ممزوجاً بالكلام على زوال الحياة وتحكم حوادث الدهر في الناس.
الوصف: الوصف يغلب على أبواب الشعر جميعاً، فهو باب واسع، يشمل كل ما يقع تحت الحواس من ظواهر طبيعية، حية وصامتة. وهكذا كان عند شعراء العصر الجاهلي الذين عايشوا الصحراء في حلهم وترحالهم، وألفوا القفار الموحشة، وما فيها من جبال ووديان ومياه وحيوانات أليفة وغير أليفة، فوصفوا ذلك كله لأنه وثيق الصلة بحياتهم وتقلباتهم.
وكانت الناقة صاحبة الشاعر في جوبه لتلك الفيافي والمفاوز، وعليها اعتماده في كثير من أحواله، لذلك أكثر فيها القول، وافتن في وصف أجزاء جسمها، وصور كل أحوالها في سيرها وسرعتها، وصبرها على مشاق السفر، حتى كادت الناقة تستأثر بنصيب وافر في طول القصائد التي نظمها أصحاب المعلقات وغيرهم، كبشامة بن الغدير، والمثقب العبدي، والمسيب بن علس، وأوس بن حجر، وغيرهم.
والفرس هو الحيوان الثاني الذي يرافق الشاعر الجاهلي، ويقاسمه العيش، ويتحمل معه التعب والعناء، والسير والسرى، ولاسيما في خروجه إلى الصيد، وخوضه الحروب. وقد عني العرب بالخيول الأصيلة، واتخذوا لها أسماء خاصة، وحفظوا أنسابها أيضاً، فلا غرابة أن يصفها شعراؤهم في قصائدهم، ولكل واحد من هؤلاء الشعراء طريقته الخاصة في وصف فرسه، سواء أكان ذلك في مجال الصيد واللهو، كامرئ القيس، أم كان في ميادين الحرب والقتال: كعنترة والمزرَّد، أم كان وصفاً عاماً للفرس، على أنه مجلى النظر وموضع الفخر، كما هو الشأن عند طفيل الغنوي وأبي دواد.
ولم يكتف الشعراء بوصف الناقة والفرس، وإنما وصفوا ضروب الحيوان الأخرى في بيئتهم ولاسيما الثور الوحشي، والبقرة الوحشية، وجعلوا وصفهم لهذين الحيوانين ذريعة إلى وصف الناقة بالسرعة والخفة عن طريق تشبيهها بأحدهما، وتخيل معركة ضارية بين الثور، أو البقرة من جهة، وكلاب الصيد من جهة أخرى. وتنتهي هذه المعركة غالباً بنجاة الحيوان الوحشي، وتغلبه على الكلاب، أو طعنه أحدها بقرنه.
كما يرد في قصائد الشعراء أوصاف لحيوانات أخرى: كالهر، والديك، والحية، والذئب،والنعامة، والغراب. وهذه الأوصاف كلها تأتي في ثنايا القصائد الطويلة، أما مطالع تلك القصائد فقد استأثر بها وصف الأطلال والرسوم الدارسة، التي تؤلف ركناً قوياً ثابتاً في أول القصيدة الطويلة، كالمعلقات وغيرها، إذ يقف الشاعر على تلك الأطلال ويصفها ويناجيها، ويذكر ما فعلته فيها الرياح والأمطار مشبهاً إياها بآثار الكتابة أو الوشم.
وكذلك وصف الشعراء الجاهليون مظاهر الطبيعة حولهم كالليل، والسحاب، والرعد، والبرق،ووصفوا كذلك الخمر ومجالس الشرب واللهو والحرب وأسلحتها المختلفة. وهذا كله يدل على عناية أولئك الشعراء وغيرهم بوصف كل ما يحيط بهم وصفاً دقيقاً، في بساطة وجمال، وصدق في التعبير عن المشاعر والإحساسات، وتعاطف مع الحيوان عامة، بوساوسه وحذره وجرأته. معتمدين على القالب القصصي في كثير من الأحيان، وعلى التشبيه وسيلة للأداء والتصوير.
خصائص الشعر الجاهلي: هذا الشعر الذي وسم بأنه «ديوان العرب» وسجل حياتهم وعاداتهم، قد صور البيئة التي نشأ فيها أصحابه أصدق تصوير، في واقعية وبساطة ووضوح، لا غلو فيها ولا تعقيد، إلا بما يتفق ومهمة الشعر، من حيث كونه فناً جمالياً لا يلتزم الحقيقة والواقع التزاماً علمياً دقيقاً، وإنما يهدف إلى الإمتاع والإثارة والتشويق. ومن شأنه في هذه الحالة أن يتجاوز الواقع أحياناً، أويعتمد على الخيال والتصوير الحسي المستمد في الوقت نفسه من البادية ومعطياتها، منتقلاً بين الحقيقة والمجاز، في نقل الصور والمشاهد، أو التعبير عن الأفكار والمشاعر، في إيجاز حيناً، وإطالة حيناً آخر بحسب المقام والغرض.
ويلاحظ في الشعر الجاهلي كثرة ذكر الأماكن والمياه والوديان، ولاسيما في مطالع القصائد، وصفاً أو مناجاة، لأنها تحفل بالذكريات الحية: فهي مواطن الأحبة ومسارح الصبا وميادين الحروب والانتصارات.
والطابع القصصي يغلب على الكثير من المواقف، في جاذبية وجمال، ولكنه يميل إلى السرعة والإيجاز، كما في وصفهم للحيوان الوحشي، ووصف الصعاليك لمغامراتهم وغزواتهم الفردية، وغزل بعض الشعراء كالمنخل اليشكري، والمرقشين: الأصغر والأكبر. ويبدو ذلك أيضاً في أبيات أوس بن حجر التي وصف فيها قصة القوس وحفظ الراعي لها في رأس جبل عال، حتى حظي بها امرؤٌ استخدمها في الرمي، بعد أن أعدها صانعها وتأنق فيها.
وقد يتشابه الشعراء الجاهليون، في بعض المعاني، والصور حتى في الألفاظ أيضاً، وهذا ظاهر في أوصافهم للناقة والفرس، والمرأة، وأدوات الحرب، والوقوف بالديار، حتى ضاق عنترة ذرعاً بذلك فقال: هل غادر الشعراء من متردم؟، ومثله زهير في قوله:
مـــا أرانـــا نقـــول إلا معـــاراً أو معـــاداً مــن قـــولنا مــكرورا
وسبب ذلك ضيق الحياة في ذلك العصر، واقتصار البيئة على معطيات واحدة، وشدة تطبع العربي بتلك البيئة التي ترعرع فيها، ونشأ على أعرافها وتقاليدها. واقتفاء الشاعر خطا من سبقوه من الشعراء وتأثره بهم. ولكن هذه الظاهرة لم تحل دون بروز شخصية الشاعر الفنية، وأدواته الخاصة في التعبير والتصوير، والابتكار والتوليد، والنفوذ إلى دقائق كثيرة، يجلوها أتم جلاء، ويكشف عنها ببراعة ومهارة.
ومما يلفت النظر، في طول القصائد الجاهليات، فقدان وحدة الموضوع منها. ويخضع ذلك لما دعاه النقاد بمنهج القصيدة، أو هيكلها.
وقد استمر ذلك إلى العصر العباسي، وتمسك به كثير من الشعراء والنقاد المحافظين، وتحدث عنه ابن قتيبة في مقدمة «الشعر والشعراء» وعلل مراحل الانتقال من موضوع إلى آخر ضمن القصيدة المدحية، راوياً عن بعض أهل الأدب: «أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والدمن والآثار، فبكى وشكى، وخاطب الربع، واستوقف الرفيق، ليجعل ذلك سبباً لذكر أهلها الظاعنين عنها.. ثم وصل ذلك النسيب، فشكا شدة الوجد، وألم الفراق، وفرْط الصبابة والشوق ليميل نحوه القلوب، ويصرف إليه الوجوه.. فإذا علم أنه قد استوثق من الإصغاء إليه، والاستماع له عقب بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر، وسرى الليل فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق الرجاء.. بدأ في المديح فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح، وفضله على الأشباه، وصغر في قدره الجزيل».
ويعقب ابن قتيبة على ذلك قائلاً: «فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب، وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحداً منها أغلب على الشعر، ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظمأ إلى المزيد».
ويمكن تعليل تعدد الموضوعات في طوال القصائد بأن الشاعر كان يخضع لأصول فنية متوارثة تأصلت على مرور الزمن والتزمها الشعراء فغدا الهيكل العام للقصيدة يؤلف وحدة فنية داخلية بديلة عن الوحدة الموضوعية.
ومن خصائص الشعر الجاهلي أيضاً أن هذا الشعر قد وصل إلينا باللغة التي غلبت في العصر الجاهلي قبيل الإسلام، وهي اللغة الأدبية المشتركة بين الشعراء والكتاب والخطباء، وإن كان هؤلاء ينتمون إلى قبائل مختلفة. وقد وصل إلينا هذا الشعر كامل الصياغة، ناضج اللغة، موحد القوالب، ذا قوة وجزالة، ومتانة في العبارة، وإذا وجد قارئه شيئاً من الألفاظ الغريبة فيه، فإنما هي كذلك بحسب ما نعرفه نحن اليوم من تلك الألفاظ التي بعد العهد بها، وندر استعمالها بين الشعراء والكتاب، لكنها لدى الجاهليين أنفسهم كانت مألوفة ومعروفة.